الاثنين، 16 نوفمبر 2009

رسالة في ليلة التنفيذ
هاشم الرفاعي


أبتاه ماذا قد يخُطّ بَناني ؟ *** والحبلُ والجلادُ منتظرانِ
هذا الكتاب إليك من زنزانةٍ , *** مقرورةٍ , صخريةِ الجدران
لم تَبْقَ إلا ليلةٌ أحيا بها , *** وأُحِسُّ أن ظلامَها أَكْفاني
ستمُرُّ يا أبتاه – لسْتُ أشُك في *** هذا – , وتحمل بعدها جثماني
الليل من حَوْلي هدوءٌ قاتلٌ , *** والذكرياتُ تَمُورُ في وُجداني
ويهدني ألمي , فأنشد راحتي *** في بضع آياتٍ من القرآن
والنفس بين جوانحي شفافةُ *** دبَّ الخشوعُ بها , فهز كِياني
قد عِشت أُومن بالإله , ولم *** أَذُقْ إلا أخيرا لذةَ الإيمان
تبا لهم , أنا لا أريد طعامَهم , *** فلْيرفعوه , فلسْتُ بالجوعان
هذا الطعام المرّ ما صنعَتْه لي *** أمي , ولا وضعوه فوق خِوانِ
كلا , ولم يشْهَدْه يا أبتي معي *** أَخَوانِ لي , جاءاه يستبِقان
مَدوا إليّ به يدا مصبوغةً *** بدمي , وهذا غايةُ الإحسان !!
والصمتُ يقطعه رنينُ سلاسلٍ , *** عبثَتْ بهم أصابعُ السجان
ما بين آونةٍ تمر وأختِها , *** يِرْنو إليّ بِمُقْلَتَيْ شيطانِ
من كُوّةٍ بالباب يَرْقُبُ صَيده , *** ويعود في أمنٍ إلى الدوران
أنا لا أَحِسُّ بأي حقدٍ نحْوه , *** ماذا جَنَى فتَمَسُّه أضغاني ؟
هو طيبُ الأخلاقِ – مثلُك – يا *** أبي , لم يَبْدُ في ظمأٍ إلى العدوان
لكنه إن نام عني لحظةً , *** ذاق العيالُ مرارةَ الحرمانِ
فلربما – وهو المروَّع سحْنة – *** لو كان مثلي شاعرا لرثاني
أو عاد – من يدري ؟ – إلى أولاده *** يوما وذَكَرَ صورتي , لبكاني
وعلى الجدار الصّلب نافذةٌ بها *** معنى الحياةِ , غليظةُ القضبان
قد طالما شارفْتُها متأملا *** في الثائرين على الأسى , اليُقْظان
فأرى وجوها كالضباب مصوِرا *** ما في قلوب الناس من غليان
نفس الشعور لدى الجميع - وإن همُ *** كتموا - وكان الموتُ في إعلان
ويدور همسا في الجوانحِ , ما الذي *** بالثورةِ الحمقاءِ قد أغراني ؟
أَوَ لمْ يكنْ خيرا لنفسي أن أُرَى *** - مثل الجميع - أسيرُ في إذعان ؟
ما ضَرَّني لو قد سكتْتُ وكلما *** غلب الأسى بالغت في الكتمان ؟
هذا دمي سيسيل , يجري مطفِئًا *** ما ثار في جنْبَيَّ من نيران
وفؤادي الموارُ في نبضاته *** سيكف في غده عن الخفقان
والظلمُ باقٍ لم يحطمْ قيْدَه *** موتي , ولن يُودِيَ به قُرْباني
ويسير رَكْبُ البَغْي , ليس يَضِيرُهُ *** شاةٌ إذا اجتُثت من القُطْعان
هذا حديثُ النفسِ حينَ تَشِفُّ *** عن بشريتي وتمور بعد ثوان
وتقول لي : إن الحياةَ لغايةٌ *** أَسْمَى من التصفيق للطغيان
أنفاسُك الحَرَّى – وإن هي أُخْمِدَت - *** ستظل تغمُرُ أُفُقَهم بدخان
وقروحُ جسمِك - وهي تحتُ سياطهم - *** قسماتُ صبحٍ يتَّقِيه الجاني
دمعُ السجينِ هناك في أغلاله *** ودمُ الشهيدِ هنا سيلتقيان
حتى إذا ما أُفْعِمَت بهما الرُّبى *** لم يِبْقَ غيرُ تمردِ الفيضان
ومن العواصفِ ما يكون هبوبُها *** بعد الهدوءِ وراحةِ الريّان
إنّ احتدامَ النارِ في جَوْف الثرى *** أمرٌ يثيرُ حفيظةَ البركان
وتتابُعُ القطراتِ ينزلُ بعدَه *** سيلٌ , يليه تدفّقُ الطوفان
فيموجُ يقْتلِعُ الطغاة مُزَمْجِرا , *** أقوى من الجبروت والسلطان
أنا لَسْتُ أدري هل ستُذْكَرُ قصتي *** أم سوف يَعْرُوها دُجَى النسيان ؟
أو أنني سأكونُ - في تاريخِنا - *** مَتآمِرا , أم هادمَ الأوثان ؟
كلّ الذي أدريه أنّ تجَرُّعي *** كأسُ المذلةِ ليس في إمكاني !!
لو لم أكُنْ في ثورتي مُتَطَلِّبا *** غيرَ الضياءِ لأُمّتي , لَكَفاني
أهوَى الحياةَ كريمةً , لا قيدَ , لا *** إرهابَ , لا استخفافَ بالإنسان
فإذا سقطْتُ , سقطْتُ أحمل عِزتي , *** يغلي دمُ الأحرارِ في شرياني
أبتاه إن طلع الصباحُ على الدُّنَى , *** أضاء نورُ الشمسِ كلَّ مكان
واستقبل العصفورُ فوق غصونِه *** يوما جديدا مشرقَ الألوان
وسمعت أنغامَ التفاؤلِ ثرةً *** تجري على فمِ بائعِ الألبان
وأتى يدقُّ – كما تعوّدَ – بابَنا , *** سيدق بابَ السجنِ جلادان
وأكونُ بعدَ هُنَيَّاتٍ متأرجِحا *** في الحبل , مشدودا إلى العيدان
ليكُنْ عزاؤُك أن هذا الحبلَ ما *** صنعتْهُ في هذي الربوعِ يدان
نسجوه في بلدٍ يُشِعُّ حضارةً , *** وتُضاءُ منه مشاعلُ العرفان
أو هكذا زعموا , وجِيء به إلى *** بلدي الجريحِ على يدِ الأعوان
أنا لا أريدك أن تعيشَ محطما *** في زحمةِ الآلامِ والأشجان
إن ابنك المصفودَ في أغلاله *** قد سِيقَ نحوَ الموتِ غيرَ مدان
وإذا سمعتَ نشيجَ أميَ في الدُّجى *** تبكي شبابا ضاع في الريعان
وتُكَتِّمُ الحسراتِ في أعماقها , *** ألماً تُواريه عن الجيران
فاطلب إليها الصفحَ عني , إنني *** لا أبتغي منها سوى الغفران
ما زال في سمعي رنينُ حديثِها *** ومقالُِها في رحمةٍ وحنان
أَبُنَيَّ : إني قد غدوتُ عليلةً , *** لم يَبْقَ لي جلدٌ على الأحزان
فأذق فؤاديَ فرحةً بالبحث عن *** بنتِ الحلالِ , ودعْكَ من عصياني
كانت لها أمنيةٌ ريانةٌ *** يا حُسنَ آمالٍ لها وأمانِ
غزلَتْ خيوطَ السعدِ مُخضلا ولم *** يكن انتقاضُ الغزلِ في الحسبان
والآن لا أدري بأيِّ جوانحٍ *** ستبيتُ بَعدي أم بأيِّ جَنان ؟
هذا - الذي سَطَّرتُه لك يا أبي - *** بعضُ الذي يجري بفكرٍ عانِ
لكن إذا انتصر الضياءُ ومُزِّقَتْ *** بِيَدِ الجُموعِ شريعةُ القرصان
فلسوف يَذْكرُني ويُكْبِرُ همتي *** مَنْ كان في بلدي حليفَ هوان
وإلى لقاءٍ تحتَ ظلِّ عدالةٍ *** قدسيةِ الأحكامِ والميزان !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق